فصل: قال ابن عادل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)}.
{الصِّيَام}: مفعولٌ لم يسمَّ فاعله، وقدَّم عليه هذه الفضلة، وإن كان الأصل تأخيرها عنه؛ لأن البداءة بذكر المكتوب عليه آكد من ذكر المكتوب لتعلُّق الكتب بمن يؤدي، والصِّيام مصدر صام يصوم صومًا، والأصل: صِوَامًا، فأبدلت الواو ياء، والصَّوم مصدر أيضًا، وهذان البناءان- أعني: فعل وفعال- كثيران في كلِّ فعل واويِّ العين صحيح اللام، وقد جاء منه شيءٌ قليلٌ على فعولٌ؛ قالوا: غَارَ غُوُورًا، وإنما استكرهوه؛ لاجتماع الواوين، ولذلك همزه بعضهم، فقال: الغُئُور.
قال أبو العباس المقرئ: وقد ورد في القرآن {كَتَبَ} بإزاء أربعة معانٍ:
الأول: بمعنى فرض؛ قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام}، أي: فُرِضَ.
الثاني: بمعنى قضى؛ قال تعالى: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21]، ومثله: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} [التوبة: 51].
الثالثُ: بمعنى جَعَل؛ قال تعالى: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21]، أي: جعَلَ لكم، ومثله: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} [المجادلة: 22] أي: جعل.
الرابع: بمعنى أمر؛ قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النفس بالنفس} [المائدة: 45]، أي: أمرناهم.
والصيام لغةً: الإمساك عن الشيء مطلقًا، ومنه صامت الرِّيح: أمسكت عن الهبوب، والفرس: أمسكت عن العدو؛ قال: البسيط:
وخَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ** تَحْتَ العَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا

وقال تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن} [مريم: 26]، أي: سكوتًا؛ لقوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيًّا} [مريم: 26] وصام النهار، اشتدَّ حرُّه؛ قال امرؤ القيس: الطويل:
فَدَعْهَا وَسَلِّ الهَمَّ عَنْهَا بِجَسْرَةٍ ** ذَمُولٍ إذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا

وقال: الرجز:
حَتَّى إذَا صَامَ النَّهَارُ وَاعْتَدَلْ ** وَمَالَ لِلشِّمْسِ لُعَابٌ فَنَزَلْ

كأنهم توهَّموا ذلك الوقت إمساك الشمس عن المسير، ومصام النُّجوم: إمساكها عن السَّير؛ قال امرؤ القيس: الطويل:
كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ في مَصَامِهَا ** بَأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إلى صُمَّ جَنْدَلِ

قال الراجز: الرجز:
وَالبَكَرَاتُ شَرُّهُنَّ الصَّائِمَهْ

وفي الشَّريعة: هو الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن المفطرات؛ حال العلم بكونه صائمًا، مع اقترانه بالنِّيَّة.
قوله: {كَمَا كُتِبَ} فيه خمسة أوجه:
أحدها: أن محلّها النصب على نعت مصدر محذوف، أي: كتب كتبًا؛ مثل ما كتب.
الثاني: أنه في محل نصب حال من المصدر المعرفة، أي: كتب عليكم الصِّيام الكَتْبَ مشبهًا ما كتب، وما على هذين الوجهين مصدريةٌ.
الثالث: أن يكون نعتًا لمصدر من لفظ الصيام، أي: صومًا مثل ما كتب، فما على هذا الوجه بمعنى الذي، أي: صومًا مماثلًا للصوم المكتوب على من قبلكم، وصومًا هنا مصدر مؤكِّد في المعنى؛ لأن الصِّيام بمعنى: أنْ تَصُوموا صَوْمًا قال أبو البقاء رحمه الله: وفيه أن المصدر المؤكِّد يوصف، وقد تقدَّم منعه عند قوله تعالى: {بالمعروف حَقًّا عَلَى المتقين} [البقرة: 180].
قال أبو حيَّان بعد أن حكى هذا عن ابن عطية: وهذا فيه بعدٌ؛ لأنَّ تشبيه الصَّوم بالكتابة لا يصحُّ، هذا إن كانت ما مصدريَّة، وأمَّا إن كانت موصولةً، ففيه أيضًا بعدٌ؛ لأنَّ تشبيه الصَّوم بالصَّوم لا يصحُّ، لا على تأويلٍ بعيدٍ.
الرابع: أن يكون في محل نصب على الحال من {الصِّيام} وتكون ما موصولةً، أي: مشبهًا الذي كتب، والعامل فيها {كُتِبَ}؛ لأنَّه عاملٌ في صاحبها.
الخامس: أن يكون في محلِّ رفع؛ لأنه صفة للصيام، وهذا مردودٌ بأن الجارَّ والمجرور من قبيل النَّكرات، والصِّيام معرفةٌ؛ فكيف توصف المعرفة بالنكَّرة؟ وأجاب أبو البقاء عن ذلك؛ بأن الصَّيام غير معين؛ كأنَّه يعني أن أل فيه للجنس، والمعرَّف بأل الجنسيَّة عندهم قريبٌ من النَّكرة؛ ولذلك جاز أن يعتبر لفظه مرَّةً، ومعناه أخرى؛ قالوا أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الحُمْرُ والدِرْهَمُ البِيضُ، ومنه:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ** فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ: لاَ يَعْنِينِي

{وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] وقد تقدّم الكلام على مثل قوله: {والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] كيف وصل الموصول بهذا؛ والجواب عنه في قوله: {خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21].
قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)}.
في نصب أيَّامًا أربعة أوجه:
أظهرها: أنَّهُ مَنصُوب بعاملٍ مقدَّرٍ يدُلُّ عليه سياقُ الكلام، تقديره صُومُوا أيَّامًا الخُرُوجَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأَنَّهُ يَلْزَمُ الفصل بيْن المصدر ومعمُوله بأجنبيٍّ، وهو قوله: {كَمَا كُتبَ}؛ لأَنَّه ليس معمولًا للمصدر على أيِّ تقديره قدَّرته.
فإن قيل: يُجعلَ {كَمَا كُتِبَ} صفةً للصّيام، وذلك على رأي من يجيزُ وصف المعرَّف بأَل الجنسيَّة بما يجرى مجرَى النَّكرة، فلا يكُونُ أجنبيًّا.
قيل: يلزمُ مِنْ ذلك وصفُ المصدر قَبل ذكر معموله، وهو ممتنعٌ.
الثالث: أنه منصوبٌ بالصِّيامِ على أنْ تقدَّر الكافُ نعتًا لمصدر من الصِّيام؛ كما قد قال به بعضُهُمْ، وإن كان ضعيفًا؛ فيكون التَّقدير: الصِّيَامُ صَوْمًا؛ كَمَا كُتِبَ؛ فجاز أن يعمل في {أَيَّامًا} {الصِّيَامُ}؛ لأنه إذْ ذاك عاملٌ في صومًا الذي هو موصوفٌ بكمَ كُتِبَ، فلا يقع الفصلُ بينهما بأجنبيٍّ، بل بمعمول المصدر.
الرابع: أن ينتصب ب {كُتِبَ} إِمَّا على الظَّرف، وإمَّا على المَفعُول به تَوَسُّعًا، وإليه نحا الفرَّاء، وتبعه على ذلك أبو البَقَاء.
قال أبو حيَّان: وكلا القَولين خطأٌ: أَمَّا النَّصب على الظرفيَّة، فإِنَّهُ محلٌّ للفعلِ، والكِتابة لَيْسَت واقعةً في الأيَّام، لكنَّ متعلَّقها هو الواقع في الأَيّام، وأَمَّا النَّصب على المفعول اتساعًا، فإِنَّ ذلك مبنيٌّ على كونه ظرفًا ل {كُتِبَ}، وقد تقدَّم أَنَّهُ خطأٌ، وقيل: نصبٌ على التَّفسير.
و{مَعْدُودَاتٍ} صفةٌ، وجمعُ صفةِ ما لا يعقل بالألف والتَّاء مطَّردٌ؛ نحو هذا، وقوله: {جِبَالٌ راسِيَاتٌ}، و{أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28].
قوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا}: فيه معنَى الشَّرْط والجَزاءِ، أي: مَنْ يَكُنْ مرِيضًا، أو مُسَافرًا، فَأَفْطَر، فَلْيَقْضِ، إذا قَدَّرْتَ فيه الشَّرط، كَانَ المرادُ بقوله: كَانَ الاسْتِقبَالُ لاَ الماضي؛ كما تقولُ: مَنْ أَتَانِي، أَتَيْتُهُ.
قوله: {أَوْ على سَفَرٍ} في مَحَلِّ نَصبٍ؛ عطفًا على خبر كان، وأو هُنَا للتَّنويع، وعَدَل عن اسمِ الفاعِل، فَلَمْ يَقْل: أَوْ مُسَافِرًا، إشعارً بالاسْتِعلاء على السَّفر، لِما فيه مِنَ الاختيار للسفر؛ بخلافِ المرض، فإنه قَهْرِيٌّ.

.فصل في أصل السَّفر واشتقاقه:

أصلُ السَّفر من الكَشف، وذلك أنه يَكشفُ عن أحوال الرِّجال وأخلاقهم، والمِسفرة: المِكْنَسَة؛ لأنَّها تكشِفُ التُّراب عن الأَرْض، والسَّفير: الدَّاخل بين اثْنَيْن للصلح؛ لأنَّه يكشِفُ الَّذي اتَّصل بهما، والمُسْفِر المُضِيء؛ لأنه قد انْكَشَف وظَهَر، ومنه: أَسْفَر الصُّبح، والسِّفر: الكتَابُ؛ لأنه يكشِف عن المعاني ببيانهِ.
وسَفَرتِ المرأَةُ عن وجهها، إذا كشَفَت النقابِ.
قال الأزهري: وسُمِّي المسافرُ مُسِافرًا؛ لكشف قناع الكنِّ عن وجهه، وبُرُوزه إلى الأرضِ الفَضَاءِ، وسُمِّي السَّفَر سَفَرًا أيضًا؛ لأنَّه يسفر عن وجُوه المُسَافرين، وأخْلاَقهم، ويظهر ما كان خافيًا منهُم، والله أعْلَم.
قوله: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
الجمهور على رفع عدَّةٌ، وفيه وجوهٌ:
أحدها: أنَّه مبتدأٌ وخبره محذوفٌ، إما قبله، تقديره: فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ أو بعده، أي فعدَّةٌ أَمْثَالُ به.
الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، أى: فالواجبُ عدَّةٌ.
الثالث: أن يرتفع بفعل محذوفٍن أي: تُجْزِئُهُ عِدَّةٌ.
وقرئ {فَعِدَّةٌ}؛ نصبًا محذوفاٍ، تقديره: فَلْيَصُمْ عِدَّةً، وكأنَّ أبا البقاء رحمه الله لم يَطَّلِعْ على هذه القراءةِ؛ فإنَّه قال: لو قرئ بالنَّصب، لكان مُسْتقيمًا، ولابد مِنْ حذف مضافٍ، تقديره: فَصَوْمَ عِدَّة وَمِنْ حذف جملة بعد الفعلية؛ ليصحَّ الكلامُ، تقديره: فَأَفْطَرَ، فَعِدَّةً؛ ونظيرهُ {اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت} [البقرة: 60] وقوله: {اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق} [الشعراء: 63]، أي: فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ.
وعِدَّة فِعْلَةٌ من العدد، بمعنى: مَعْدُودَة، كالطِّحْنِ والذِّبْح، ومنه يقال للجماعة المعدودة مِنَ النَّاس عِدَّة، وعِدَّة المرأة مِنْ هذا، ونَكَّر عِدَّة، ولم يقل: فعدّتها؛ اتّكالًا على المعنى؛ فإنَّا بيَّنَّا أنَّ العدَّة بمعنى المعدُودة، فأمر بأن يصوم أيَّامًا معدودةً والظَّاهر: أنَّه لا يأتي إلاَّ بمثل ذلك العَدَ، فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة.
و{مِنْ أَيَّام}: في مَحلِّ رفع، أو نصبٍ على حَسَب القراءتين صفة لعِدَّة.
قوله: {أُخَر} صفةٌ ل {أيَّام}؛ فيكون في محلِّ خفضٍ، و{أُخَرَ} على ضربَيْن.
أحدهما: جمع أُخْرَى تأنيث أخَرَ الَّذي هو أفعَلُ تَفضيل.
والثاني: جمع أُخْرَى بمعنى آخِرَةِ تأنيث آخِرٍ المقابل لأوَّل؛ ومنه قوله تبارك وتعالى: {وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ} [الأعراف: 39] فالضربُ الأَوَّل لا ينصرفُ للوَصف والعَدْل، واختلفُوا في كيفيَّة العَدْل: فقال الجمهورُ: إنه عَدلٌ عن الألف واللاَّم؛ وذلك أنَّ أُخَرَ جمعُ أُخْرَى، وأُخْرَى تأنيث آخَرَ وآخَرُ أفعلُ تفضيلٍ لا يخْلُو عن أحدِ ثلاثةِ استعمالاتٍ.
إما مع أل وإمَّا مع مَنْ، وإما مع الإضَافَةِ، لكن مِنْ ممتنعةٌ؛ لأن معها يلزمُ الإفرادُ والتذكير والإضافة في اللفظِ؛ فقدَّرنا عدلَهُ عن الأَلِفِ واللاَّم، وهذا كما قالُوا في سَحَرَ إنَّه عدلٌ عن الألِفِ واللام، إِلاَّ أنَّ هذا مع العلميَّة، ومذهَبُ سيبويه: أنه عدل من صيغة إلى صيغةٍ؛ لأنه كان حقُّ الكلام في قولك: مَرَرْتُ بِنِسْوَةِ أَخَرَ على وزن فُعَلَ أنْ يكون بنِسْوَةٍ آخَرَ على وزن أَفْعَل؛ لأن المعنى على تقدير مِنْ فعُدِل عن المفرد إلى الجمع.
وأمَّا الضربُ الثَّاني: فهو منصرفٌ؛ لِفُقْدَانِ العلَّة المذكورة، والفرقُ بين أُخْرَى التي للتفضيلِ، وأُخْرَى التي بمعنى متأخِّرة- أنَّ معنى الَّتي للتفضيل معنى غَيْرَ، ومعنى تِيكَ معنى متأخِّرة؛ ولكونِ الأُولى بمعنى غَيْر لا يجوز أن يكونَ ما اتَّصلَ بها إلاَّ منْ جنس ما قبلها؛ نحو: مررتُ بِكَ، وبرَجُلٍ آخر ولا يجوز اشْتَرَيْتُ هَذَا الجَمَلَ وَفَرَسًا آخَرَ؛ لأنه من غير الجنْسِ، فأما قوله في ذلك البيت: البسيط:
صَلَّى عَلَى عَزَّةَ الرَّحْمنُ وَابْنَتِهَا ** لَيْلَى وَصَلَّى عَلَى جَارَاتِها الأُخَرِ

فإنَّه جعل ابنتها جارة لها، ولولا ذلك، لَمْ يَجُزْ، ومعنَى التفضيل في آخر وأَوَّل، وما تصرَّف منها قلِقٌ مذكورٌ في كُتُب النَّحْو، وإنَّما وصفت الأيّام ب {أُخَرَ} مِنْ حيثُ إنَّها جمعٌ ما لا يعقلُ، وجَمْعُ ما لا يعقلُ يجوز أنْ يُعَامَلُ معاملةً الواحدة المؤنَّثة، ومعاملةَ جمع الإنَاثِ، فمن الأول {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] وفي الثاني هذه الآية اكريمة، ونظائرها، فإنما أوثر هنا معاملتُهُ معاملةَ الجمع؛ لأنه لو جيء به مُفْرَدًا، فقيل: {عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامُ أُخْرَى} لأهم أنَّه وصف فيفوت المقصُود.
قوله: {يُطِيقُونَهُ} الجمهور على {يُطِيقُونَهُ} من أطَاقَ يُطِيقُ، مثلُ أقَامَ يٌقِيمُ، وقرأ حُمَيدٌ {يُطْوِقُونَهُ} من أَطْوَقَ كقولِهم أَطْوَال في أطالَ، وأغْوَال في أغال، وهذا تصحيحٌ شاذٌ، ومثله في الشُّذُوذ من ضوات الواو أجودَ بمعنى أجادَ، ومن ضوات الياء أَغْيَمَتِ السَّماءُ، وأَجبَلَتْ، وأَغْيَلَت المَرْأَةُ وأَطْيَبَتْ، وقد جاء الإعلالُ في الكُلِّ، وهو القياس، ولم يقل بقياسِ نحو أَغيَمَتْ المَرْأَةُ وَأَطْيَبَتْ، وقد جاء الإعلالُ في الكُلِّ، وهو القياس، ولم يقل بقياسِ نحو أَغيَمَتْ وَأَطوَلَ إِلا أبو زَيدٍ.
وقرأ ابن عبَّاسٍ وابن مَسعُودٍ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، ومجاهد، وعكرمةُ، وأيُّوب السَّختياني، وعطاءٌ {يُطوَّقونَهُ} مبنيًّا للمعفول من طوَّقَ مُضعَّفًا، على وزن قَطَّعَ، وقرأ عائشةُ، وابن دينارٍ: {يَطَّوَّقُونَهُ} بتشديد الطاء والواو من أَطْوَقَ، وأصله تَطَوَّقَ، فلما أُرِيدَ إدغامُ التَّاء في الطاء، قُلِبت طاء واجتلبت همزةُ الوَصل؛ ليمكن الابتداءُ بالسَّاكن، وقد تقدَّم تقرير ذلك في قوله تعالى: {أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] وقرأ عكرمةُ وطائفة {يَطَّيَّقُونه} بفتح الياء، وتشديد الطَّاء، والياء، وتُروى عن مجاهد أيضًا، وقرئ أيضًا هكذا لكن ببناء الفعل للمفعُول.
وقد ردَّ بعضهم هذه القراءة، وقال ابنُ عطيَّة تشديدُ الياءِ في هذه اللَّفظة ضعفٌ وإنَّما قالُوا ببُطْلان هذه؛ لأنَّها عندَهُم من ذوات الواو، وهو الطَّوق، فمِنْ أين تجيء الياء، وهذه القراءةُ لَيْسَت باطلةً، ولا ضعيفةً، ولها تخريجٌ حسنٌ، وهو أن هذه القراءة لَيستْ من تَفَعَّلَ؛ حتى يلزم ما قالوه من الإشكال، وإنما هي من تَفَيْعَل، والأصلُ تَطَيْوَقَ مِنَ الطَّوْقِ ك تَدَيَّرَ وتَحَيَّرَ من الدَّوَرَانِ والحَوْر، والأصل تَدَيْوَرَ، وتَحَيْورَ فاجتمعت الواوُ والياءُ، وسبَقَتْ إحداهما بالسُّكُون، فقلبت الواو ياءً، وأُدغمت الياء في الياء، فكان الأصلُ يَتَطَيْوَقُونَهُ، ثم أُدغم بعد القلبِ، فمن قرأ {تَطَّيَّقُونَهُ} بفتح الياء بناه للفاعل، ومن ضمَّها بناه للمفعول، ويحتمل قراءة التشديد في الواو، أو الياء أن تكون للتكلُّف، أي: يَتَكَلَّفُونَ إطاقَتَهُ وذلك مجازٌ من الطَّوقِ الذي هو القلادةُ في أعْناقهم، وأبعد من زعم أنَّ لا محذوفةٌ قبل ويطيقُونَهُ، وأنَّ التقديرَ، لاَ يُطِيقُونَهُ، ونَظَّرَهُ بقوله: الطويل:
فَخَالِفْ فَلاَ واللَّهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً ** من الأَرْضِ إِلاَّ أَنْتَ لِلذُلِّ عَارفُ

وقوله: الكامل:
آلَيْتُ أَمْدَحُ مُغْرمًا أَبَدًا ** يَبْقَى الْمَدِيحُ ويَذْهَبُ الرِّفْدُ

وقوله: الطويل:
فَقُلْتُ: يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا ** وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالي

المعنى: لاَ تَهْبِطُ، ولاَ أَمْدَحُ، وَلاَ أَبْرَحُ، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ حذفها مُلتبسٌ، وأما الأبياتُ المذكورة؛ فلدلالة القسم على النَّفي.
والهاء في {يَطِيقُونَهُ} للصَّومِ، وقيل: للفداء؛ قاله الفراء.
وفِدْيَة مبتدأٌ خبره في الجَارِّ والمجرور قَبْله، والجُمْهُورُ على تَنْوين فِدْيَةٌ ورفع طَعَام وتوحيد مسكين وهشام كذلك إلاَّ أنه قرأ {مَسَاكينَ} جمعًا، ونافعٌ وابنُ ذكوان بإضافة فِدْيَة إلى {مَسَاكِين} جمعًا، فالقراءة الأولى يكون طَعَامًا بَدَلًا من فِدْيَةٌ بَيَّنَ بهذا البَدَل المراد بالفدْية، وأجاز أبو البقاء- رحمه الله تعالى- أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: هي طعامٌ، وأما إضافة القدية للطَّعام، فمِن باب إضافة الشيء إلى جنْسِه، والمقصُود به البيانُ؛ كقولك: خَاتَمُ حَدِيدٍ، وثَوبُ خَزٍّ، وبابُ ساجٍ لأنَّ الفدية تكونُ طعامًا وغيره، وقال بعضهم: يجوز أنْ تكُون هذه الإضافة من باب إضافة الموصُوف إلى الصِّفة، قال: لأنَّ افِدْية لها ذاتٌ وصفَتُها أنَّها طعام، وهذا فاسِدٌ؛ لأنَّه إمَّا أن يريد بطَعَام المصدرَ بمعنى لاإطعام؛ كالعطاء بمعنى الإعطاء، أو يُريدَ به المفعُول؛ وعلى كلا التَّقديرين، فلا يُوصفُ به؛ لأنَّ المصدر لا يُوصَف عند المُبالغة إلاَّ المفعُول؛ وعلى كلا التَّقديرين، فلا يُوصفُ به؛ لأنَّ المصدر لا يُوصَف عند المُبالغة إلاَّ المفعُول؛ وعلى كلا التَّقديرين، فلا يُوصفُ به؛ لأنَّ المصدر لا يُوصَف عند المُبالغة إلاَّ به وليست مُرادةً هنا، والذي بمعنى المفعولِ ليس جَاريًا على فِعْلٍ، ولا ينقاسُ، لا تقُول: ضِرَاب بمعنى مَضْرُوبِ، ولا قِتَال بمعنى مَقْتُولٍ، ولكونها غير جاريةٍ على فِعْلِ، لم تَعَمْلْ عَمَله، ولا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ طَعَامٍ خُبْزُهُ وإذا كانَ غيرَ صفةٍ، فكيفَ يقال: أُضِيفَ المَوْصُوفُ لصفَتِهِ؟
وإنِّما أُفْرِدَت فِدْيَةٌ؛ لوجهين:
أحدهما: أنَّها مصدرٌّ، والمصدرُ يُفْرَدُ، والتاء فيها ليست للمَرَّة، بل لِمُجَرَّدِ التأنيث.
والثاني: أنه لَمَّا أضافَها إلى مضافٍ إلى الجمع، أفَهْمَتِ الجَمْعَ، وهذا في قراءةِ {مَسَاكين} بالجمع، ومَنْ جمع {مَسَاكِين}، فلمقابلةِ الجمع بالجمع، ومَنْ أَفْرَدَ، فعلى مراعاة إفراد العُمُوم، أي: وعلى كلِّ واحدٍ مِمَّن يُطيقُ الصَّوْم؛ لكُلِّ يوم يُفْطِرُهُ إطعامُ مسكين؛ ونظيرهُ: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].
وتَبَيَّن مِنْ إفراد المِسْكِين أنَّ الحُكم لِكلِّ يومٍ يُفْطر فيه مِسْكِينٌ، لوا يُفْهَمُ ذلك من الجَمع، والطَّعَام: المرادُ به الإِطْعَامُ، فهو مصدرٌ، ويَضْعُفُ أنْ يُراد به المفعولُ، قال أبو البقاء: لأنَّه أضافه إلى المِسْكِين، وليْسَ الطعامُ للمسْكِين قَبْل تمليكِه إياه، فلو حُمِلَ على ذلك، لكان مجازًا؛ لأنه يصير تقديرُه: فعلَيهِ إخراجُ طعام يَصِيرُ للمَسَاكِين، فهو من باب تسمية الشيءِ بما يؤول إليه، وهو وإنْ كان جائزًا، إلا أنِّه مجازٌ، والحقيقة أَوْلى منه.
قوله: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} قد تقدَّم نظيرهُ عنْد قوله تعالى: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] فَلْيُلْتَفتْ إليه، والضميرُ في قوله: {فَهُوَ} ضميرُ المصدرِ المدْلُول عليه بقوله: {فَمَنْ تَطَوَّعَ}، فالتَّطُّوعُ خيرٌ له، و{لَهُ} في مَحَلِّ رفعٍ؛ لأنه صفةً ل {خَيْرٌ}؛ فيتعلَّ بمحذوف، أيْ: خَيْرٌ كَائِنٌ لَهُ.
وقوله: {إنْ كُنْتُم تَعْلَمُونَ} شرطٌ حذف جوابه، تقديره: فالصَّوم خيرٌ لكم، وحذف مفعول العلم؛ إما اقتصارًا، أي: إن كنتم من ذوي العلم والتمييز، أو اختصارًا، أي: تعلمون ما شرعيته وتبيينه، أو فضل ما علمتم.
من ذهب إلى النَّسخ، قال: معناه: الصَّوم خيرٌ له من الفدية، وقيل: هذا في الشَّيخ الكبير، لو تكلَّف الصَّوم، وإن شقَّ عليه، فهو خيرٌ له من أن يفطر ويفدي.
وقيل: هذا خطابٌ مع كل من تقدَّم ذكره، أعني: المريض، والمسافر، والذين يطيقونه.
قال ابن الخطيب: وهذا أولى؛ لأنَّ اللفظ عامٌّ، ولا يلزم من اتِّصاله بقوله: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} أن يكون حكمه مختصًّا بهم، لأنَّ اللفظ عامٌّ، ولا منافاة في رجوعه إلى الكُلِّ، فوجب الحكم بذلك. اهـ. باختصار.